بروفيسور مروان دويري: العلاج النفسي لمرضى القلب
هنالك إجماع على أن نوبات وأمراض القلب تحصل عند توفر مجموعة من العوامل كالوراثة، الكولسترول،
البروفيسور مروان دويري
ضغط الدم العالي، السمنة، التدخين، قلة الحركة، الضغط النفسي، العصبية وغيرها. لا يشكل أي عامل من هذه العوامل سببا كافيا لوقوع المرض بل إن تفاعل بعض هذه العوامل أو جميعها معا هو الذي يُحدث المرض، لهذا السبب تجد بعض المرضى يأتون من عائلات يعاني أفرادها أمراض القلب وآخرين من عائلات لا يعاني أفرادها مثل هذه الأمراض، وتجد بعضهم يدخنون وبعضهم الآخر لا يدخن وقس على ذلك بالنسبة لبقية العوامل.
لا شك أن على مرضى القلب الخضوع لعلاجات طبية ومتابعة تشمل العلاج الدوائي والحمية والرياضة وأحيانا القسطرة والعمليات الجراحية وغيرها من العلاجات التي تهدف إلى المحافظة على قيام القلب بوظيفته الحيوية بناء على فهم الوضع التشريحي والبنيوي والوظيفي له وللأوعية الدموية. يزداد في السنوات الأخيرة النقد الموجه للمدارس الطبية السائدة لأنها تتعامل مع القلب على أنه مضخة فحسب متجاهلة العوامل النفسية والأسرية والاجتماعية وأثرها على القلب ودورها في العلاج. يهدف هذا المقال إلى توضيح دور هذه العوامل في ظهور المرض وفي العلاج أيضا.
القلب والحالة النفسية:
ليس من الصعب إدراك العلاقة بين أداء القلب وبين الحالة النفسية للإنسان. كلنا يشعر بتسارع دقات القلب في حالة الغضب أو الخوف. من المعروف أن دقات القلب لدى جميع الحيوانات تتسارع حين تتعرض لخطر وذلك كجزء من حالة التأهب التي تتطلب الهجوم أو الهرب دفاعا عن نفوسها. أما عواطف الإنسان فهي مركبة أكثر وتشمل إلى جانب الغضب والخوف مشاعر أخرى كالفرح والحب التي تؤثر على دقات القلب ونشاطه، لذلك نرى لدى جميع الشعوب وفي جميع اللغات أقوالا تربط بين الحالة العاطفية كالحزن والغضب والحب والفرح وبين القلب فيقول أحدهم "هبط قلبي أو توقف قلبي خوفا" أو "اشتعلت النار في قلبي غضبا" أو "جرح قلبي أو كسر قلبي حزنا" أو "طار قلبي فرحا" أو "امتلأ قلبي حبا أو كراهية" وغيرها. لجميع هذا الأوصاف المجازية أساس فسيولوجي حقيقي نابع من إفراز أنواع معينة من الهرمونات في الجسم وخروج الدورة الدموية ودقات القلب عن وثيرتها العادية عند وقوع الانفعالات العاطفية.
حين يقع الإنسان في حالة ضغط نفسي مزمن دون أن يجد لنفسه مخرجا منه فمن الطبيعي أن يتشوش عمل القلب والأوعية الدموية بل وأحيانا يتداعى خاصة إذا توفرت عوامل أخرى كالوراثة أو السمنة أو التدخين التي هي أيضا مرتبطة بحالة الضغط النفسي التي يمر بها الإنسان.
إليكم بعض المعطيات التي توضح العلاقة بين أمراض القلب والحالة النفسية: نسبة نوبات القلب والوفيات ترتفع بشكل ملحوظ بعيد فقدان شخص عزيز أو فقدان وظيفة أو مركز. ترتفع نسبة نوبات القلب والوفيات أيضا في الأعياد التي ترافقها عادة كثير من التوترات المتعلقة بالتعامل مع الأقارب والأصدقاء. بغض النظر عن الظروف التي يعيشها الشخص ترتفع هذه النسب أيضا لدى الأشخاص ذوي المزاج العصبي والغاضب (المزاج المسمى Type A) مقارنة بالأشخاص الذين يتمتعون بالرضى والهدوء النفسي. من هنا فأخطار العوامل الوراثية والسمنة والتدخين تتضاعف عند تعرض الشخص لضغوط نفسية لا يحسن مواجهتها بنجاعة، وعليه فالعلاج الطبي المنحصر في السيطرة على الوظائف الجسدية لا يمكن أن يكون كاملا بدون علاج نفسي يساعد المريض على إعادة النظر في فهمه لواقعه ولطرق المواجهة التي انتهجها وبطريقة تعامله مع جسده. التعامل مع القلب على أنه مضخة عضلية يجب تشغيلها بواسطة الأدوية أو القسطرة أو العمليات الجراحية دون فهم علاقة القلب بحياة الإنسان وبطريقة مواجهته للصعاب والأزمات يبقى نوع من "الترقيع" الذي لا يلبث إلا أن يتداعى. هنالك مراكز طبية طلائعية في العالم بدأت بإدخال العلاج النفسي الجماعي والفردي كجزء لا يتجزأ من برنامج علاج طبي ونفسي واجتماعي وأثبتت بأن هذا النوع من العلاج يقلل عودة النوبات القلبية ويقلل تفاقم وضع القلب والأوعية الدموية ويقلل بشكل ملحوظ من احتمالات الوفاة لدى مرضى القلب.
كيف تـُحوّل النوبة القلبية لصالحك؟
لقد حضر إلى مريض أصيب بنوبة قلبية وهو في عمر 43 سنة. انه طبيب يعمل في أحد المستشفيات ويدير عيادة خاصة. بطبيعة الحال كان قلقا على حياته وعلى كيفية مواصلة تحمله لمسؤولياته المهنية والأسرية والاجتماعية. لقد كان حزينا ومكتئبا لأنه شعر أنه فقد صحته الطبيعية وأصبح عاجزا عن مواصلة حياته التي وصفها على أنها "معركة" حقق فيها "نجاحا كبيرا". لقد كان منغمسا بأفكار سوداوية تتعلق باحتمالات تفاقم وضعه وتحوله إلى عاجز وباحتمالات وفاته وترك أولاده أيتاما. بعد إبداء تفهمي لقلقه وحزنه طلبت منه أن يحدثني عن مسيرة حياته التي يصفها "كمعركة". إليكم بعض ما جاء في حديثه: نشأ على قيم مسيحية فهم منها أن عليه ألا يـُغضب أحدا بل عليه أن يحب أعداءه وعليه توجيه خده الأيسر حين يضربه أحد على خده الأيمن. نتيجة هذه القيم التي تبناها "ابتلع" في طفولته كثيرا من المضايقات من اخوته على مضض، وفيما بعد من زوجته وأهلها ومن زملائه في العمل ومع هذا بذل جهدا كبيرا لكي يواصل معاملتهم بمحبة. لقد كان المعيل الوحيد لأسرته فعمل بمعدل 12 ساعة يوميا ليوفر لأسرته ولوالديه الدعم المادي. لقد كان يذنب نفسه على عدة أمور ليس هو المسؤول الوحيد عنها مثل فشل احدى بناته في المدرسة وتدهور صحة أبيه وغيرها من الأمور. وبطبيعة الحال كان شعوره بالذنب يدفعه دائما إلى مضاعفة الجهود التي يبذلها لكي يرضي ضميره المتزمت. هذه رؤوس أقلام تعكس "المعركة" التي عاشها. حين سألته فيما إذا نجح بكسب رضى من بذل نفسه لأجلهم بدأت الدموع تغرق عينيه ويحدثني كيف أن والديه يعطون اعتبارا لاخوته دونه، وكيف أن زوجته دائمة الشكوى من غيابه عن البيت وعدم مشاركته لها في مسؤوليات البيت وكيف أنه لا يجد لغة مشتركة مع أولاده. خلال المحادثة بدا على جسمه السمين والمترهل عدم الراحة وكان يشعل السيجارة تلو الأخرى دون توقف بالرغم من علمه كطبيب أن التدخين يضر بقلبه وبصحته. مع اقتراب نهاية الجلسة معه قلت له جملة فاجأته لكنها جعلته يدرك ما لم يدركه طوال حياته. قلت له "منيح اللي صابتك هذه النوبة" وبعدها أوضحت أن حصول النوبة جاء بمثابة إنذار كأي صفارة إنذار أو ضوء أحمر يدلنا على خلل في الجهاز أو النظام. أوضحت أنه ليس للجسد كلمات يتكلم بها بل لغة جسد كالنوبة القلبية التي يقول قلبك لك بواسطتها ما معناه "كفا لم أعد أحتمل أكثر هذا النهج". أوضحت له أن عليه ألا ينشغل في كيفية إسكات هذا الإنذار بل أن يصغي له ويدركه ويباشر في مراجعة حساباته مع نفسه وجسده والآخرين. لقد بدأ هذا الطبيب علاجا نفسيا أعاد فيه كل حساباته ونهجه من جديد. فبدل نهج إرضاء ضميره المتزمت وإرضاء الآخرين على حساب قلبه بدأ يؤسس توازنا أفضل لإرضاء ضميره والآخرين ضمن الحدود التي يرضا بها قلبه أيضا.
في جميع الحالات التي عرفتها بعد وقوع نوبة قلبية كان هنالك نهج تفكير وتعامل مع الذات والجسد والآخرين يثقل على القلب ويتطلب إعادة نظر إذ بدونه تكون إمكانيات العلاجات الطبية التقليدية محدودة.
عناصر العلاج النفسي المطلوب لمرضى القلب
يمكن للعلاج النفسي لمرضى القلب أن يتم بشكل فردي أو جماعي وفي جميع الأحوال يجب أن يتضمن العناصر التالية:
1) مشاركة وتعبير عن المشاعر الحقيقية: معظم المرضى يشعرون أن لا أحد يستطيع تحمل مشاعرهم لذلك فإما أن يبقوها في قلوبهم، الأمر الذي يثقل على قلوبهم أكثر، وإما أن يبوحوا بها وحينها هل سيجدون من يصغي ويتفهم؟ حين يعبر مريض عن قلقه أو حزنه يكون رد من حوله نافيا لهذا الخوف أو الحزن إما بواسطة جمل يقصد منها عبثا التهدئة مثل "لا داعي للقلق فصحتك مثل الحديد"، وإن أصر المريض على التعبير عن مشاعره المثقلة يحاول من حوله أحيانا إلهاءه عبثا عن مشاعره بواسطة تغيير الموضوع. وإن واصل المريض الشكوى يبدأ البعض بالابتعاد عنه تاركينه وحيدا في همه. العلاج النفسي لا يتيح للمريض أن يبوح بما يجول بقلبه وذهنه فحسب بل يساعده على فهمها من جديد والتعامل معها بشكل ناجع.
2) الإصغاء للجسد والاسترخاء: معظم المرضى يعيشون بذهنهم ومشاعرهم خارج أجسادهم مبقين الجسد بمثابة حاوية لنشاط هرموني يضر بأعضائه وأنسجته. قبل المرض ينشغلون بهمومهم الحياتية ويواجهونها بشكل عقيم يثقل على القلب كما حصل مع ذلك الطبيب. وبعد المرض ينشغلون بخوفهم على حالهم وبعتبهم وغضبهم على الأهل والأطباء وبقلقهم من المستقبل دون الإصغاء إلى حال الجسد وأحاسيسه (أي لغته) التي تتأثر بشكل مباشر من طريقتهم في مواجهة همومهم. يمكن تشبيه الجسد المريض كالطفل الذي يتحمل ويعاني ويبكي. فمثله مثل الطفل يكون بحاجة لمن يقترب منه ويصغي إليه ويطمئنه، أما تجاهله ومواصلة السير فلا تزيد الجسد إلا معاناة وعناء ومرضا. هنالك طرق استرخاء يمكن لكل مريض تعلمها ليصغي لجسده ويسترخي ويهدأ. لهذه الطرق تأثير شبه سحري على معاناة الجسد. كثير من المرضى الذين يعانون ضيق تنفس مثلا يرتاحون بعد دقائق لمجرد الإصغاء للتنفس، والذين يعانون ضغطا في الصدر أو أوجاعا يرتاحون لمجرد الإصغاء بحنان للجسد بدل الغضب عليه. طرق الاسترخاء تعيد التواصل السليم بين النفس والجسد.
3) تغيير أنماط التفكير والفهم: لكل منا طريقة في فهم ما يمر به من مآزق ومشاكل. هذه الطرق تتجذر في عقولنا منذ الطفولة ونواصل انتهاجها كبارا. في كثير من الأحيان تكون هنالك ضرورة لفحص هذه الطرق من جديد وفحص جدواها أو تأثيرها على ضائقتنا. هاكم مثلا واحدا من بين أخطاء التفكير الشائعة: "حين لا تلبي زوجتي طلبي فهي لا تحترمني ولا تكترث لمشاعري لذلك أنا غاضب أو حزين". هل حقا؟ حين يجري تحليل الوضع يتبين أن لا علاقة بين رفض الزوجة للطلب وبين احترامها لزوجها واهتمامها بمشاعره بل إن رفضها يتعلق بأمور أخرى كتعبها أو انشغالها أو اعتباراتها أو غيرها من العوامل. في هذه الحالة لا بد من كشف سوء الفهم لدى الزوج وتوجيهه لقراءة وفهم رفض زوجته بشكل آخر. أمثلة الأخطاء التفكيرية كثيرة لا يتسع هذا المقال لشرحها.
4) تعليم التفكير والتخيل الإيجابي: قلما ندرك أن ما نفكر به أو نتخيله يؤثر بصحتنا الجسدية وبمشاعرنا، فحين نقضي ساعات بالتفكير بهمومنا أو تخيل حالنا المزري يكون جسدنا يتحمل تبعات هذه الأفكار والخيالات من خلال هرمونات ومواد كيماوية ضارة جدا (transmitters and Peptides) تفرز أثناء هذه الأفكار والخيالات. نحن بحاجة للتفكير بمشاكلنا بهدف اتخاذ قرارات والوصول لحلول لكن حين يتحول التفكير إلى اجترار لأفكار تدور في دائرة مغلقة لا بد من وقفه وتحويله إلى تفكير مجد أو تحويله إلى مواضيع أخرى حماية لأجسادنا من هذه الهرمونات والكيماويات الضارة. هنالك طرق يمكن للمرضى تعلمها من أجل السيطرة على مضامين التفكير والخيالات.
5) تغيير أنماط المواجهة: أنماط المواجهة متعددة وتتراوح بين العنف والاستسلام ومن بينها عدة طرق حكيمة تجد توازنا بين ما نريده وبين ما هو ممكن. كثير من المرضى يبحثون عن حل من خلال تغيير غيرهم. وحين يرون أن الغير لا يتغير فيحبطون ويكتئبون أو يغضبون مما يسيء مباشرة لأجسادهم. من المهم أن يكف هؤلاء المرضى عن البحث عن حلول لدى الآخر الذي لا يملكون أي سيادة عليه وأن يعودوا لأنفسهم ليجدوا حلولا قادرين هم على تطبيقها. لنعد لذلك الطبيب كمثال: هل عليه استمرار التفاني والعطاء وانتظار رضى الغير أم أن عليه أن يدرك أنه المسؤول عن مدى وشكل العطاء الذي يقدمه وبالتالي مسؤول عن ضائقته، وأن يهتم أن يكون قلبه راضيا قبل أن ينتظر رضى الآخرين عنه؟ يمكن القول بشكل عام بأن أنماط السيطرة والعصبية من جهة وكذلك أنماط الكبت والقمع الذاتي من جهة أخرى هي أنماط تدفع باتجاه تفاقم وضع القلب والأوعية الدموية، بينما أنماط التقبل والرضا والمحبة وكذلك أنماط التعبير عن الذات والتصدي للقمع بحكمة وواقعية هي أنماط تحافظ على صحة القلب والأوعية الدموية. إن تغيير أنماط المواجهة ليس بالأمر السهل لكنه بالأمر الممكن وهذا يتطلب عددا من الجلسات العلاجية ويرافقه عمل على تغيير فلسفة الحياة وأنماط التفكير والسلوك ويتطلب الكثير من المثابرة والإصرار.
6) علاج أسري: لكي يكتمل التغيير المطلوب في حياة المريض ويتثبت تكون في كثير من الأحيان ضرورة لعلاج أسري يشارك فيه بعض أو جميع أفراد الأسرة لفحص وإعادة النظر في توزيع الأدوار وفي كيفية حل الصراعات بين أفرادها. إن في هذا النوع من العلاج فائدة للمريض ولبقية أفراد الأسرة الذين ربما يعانون هم أيضا من أزمات تؤثر وتتاثر بحالة المريض النفسية والجسدية.
الأبحاث العلمية تشير بشكل واضح بأن العلاج النفسي الفردي والجماعي للمرضى وكذلك العلاج الأسري لهم ولذويهم، إلى جانب العلاجات الطبية الأخرى، تقلل من احتمالات تكرار النوبات القلبية ومن تفاقم صحة المرضى ومن نسبة الوفيات. كما أن هذه العلاجات تجعل حياة المريض أكثر سعادة ونجاحا بالرغم من النوبة القلبية ومن الضعف الذي اعترى القلب.