المتتبع للأحاديث المروية في صيام عاشوراء يرى أن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يصوم هذا اليوم قبل الهجرة، بل كانت العرب في الجاهلية تصومه وتعظمه، وتكسو فيه الكعبة، وقيل: إنهم تلقوا ذلك من الشرع السالف. وروي عن عكرمة أن قريشًا أذنبت ذنبًا في الجاهلية، فعظم في صدورهم، فقيل لهم: صوموا عاشوراء يكفّر ذلك عنكم.
فالنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يبتدئ صومه في المدينة، ولم يصمه اقتداء باليهود، وإنّما قال: ''نحن أحق بموسى منكم'' وأمر بصيامه، تقريرًا لتعظيمه وتأكيدًا وتعليمًا لليهود أن دين الله واحد في جميع الأزمان، وأن الأنبياء إخوة وضع كل منهم لبِنة في بناء الحق، وأن المسلمين أولى بكلّ نبيّ ممّن يدّعون اتباعه. إنّ يوم عاشوراء هو يوم هلاك لفرعون وانتصار لموسى عليه السّلام، وهو كذلك انتصار للحق الّذي بعث الله به محمّدًا صلّى الله عليه وسلّم، وإذا صامه موسى عليه السّلام شكرًا لله فالمسلمون أحق أن يقتدوا به من اليهود. إنّ موافقة نبيّنا الكريم صلّى الله عليه وسلّم لليهود في أصل الصيام كانت في أوائل العهد المدني؛ إذ كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينه عنه استمالة لهم، وتألّفًا لقلوبهم، فلمّا استقرت الجماعة الإسلامية وتبيّنَت عداوة أهل الكتاب للإسلام ونبيّه وأهله أمر بمخالفتهم في تفاصيل الصوم مع الإبقاء على أصله احتفالاً بالمعنى العظيم الّذي ذكرناه، فقال صلّى الله عليه وسلّم: ''صوموا يوم عاشوراء، وخالفوا اليهود، وصوموا قبله يومًا وبعده يومًا'' رواه أحمد. وقد تحرّج الصحابة رضوان الله عليهم من موافقة أهل الكتاب في صيام عاشوراء، مع حرصه صلّى الله عليه وسلّم على تميّز أمّته عن مخالفيهم في العقيدة ويتجلّى هذا فيما رواه مسلم عن ابن عباس قال: لمّا صام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله، إنّه يوم تعظّمَهُ اليهود والنصارى، فقال: إذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنًا اليوم التاسع. قال: فلم يأت العام المقبل حتّى توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. والراجح الّذي يُفْهَم من هذا الجواب ومن الآثار الأخرى أنه صلّى الله عليه وسلّم لن يقتصر على اليوم العاشر بل أراد أن يضيف إليه التاسع مخالفة لليهود والنصارى. قال ابن القيم رحمه الله: فمراتب صومه ثلاث: أكملها أن يصام قبله يوم، وبعده يوم، ويلي ذلك أن يصام التاسع والعاشر، وعليه أكثر الأحاديث، ويلي ذلك إفراد العاشر وحده بالصوم