عروبة القدس من خلال أسمائها
على الرغم من أن استقراء أسماء فلسطين كافيةً تماماً للدلالة علىعروبة "القدس" - روح فلسطين وقلبها - التي عرفها الزمن فصاغها قلادة علقت على صدرفلسطين. وكافيةً أيضاً للدلالة على انقطاع أي صلة لليهود بها ودحض أي حق لهم في تملكهاإلا أنهم لم يتورعوا عن تبرير هذا الإثم في حق الجغرافيا بإثارة مسألة قداسة القدسبالنسبة لليهود وليفصلوا منها حجهم الرامية إلى امتلاك المدينة. وحرصاً من شعبِها علىتفتيت وإزاحة الكتل الضخمة من الادعاءات المزيفة، سيكون من الأهمية،بمكان خاص استقراء أسماء القدس منذ أقدم عصورها وحتى هذا اليوم الذي نعيش فيه .
وعلى ضوء المكتشفات الأثرية الحديثة فإن أولاسم عرفت به القدس، هو الاسم الذي سماها به سكانها الأصليون "الكنعانيون" وهو "يرو-شاليم" أو "يرو -شلم" وشالم وشلم اسم لإله كنعاني معناه السلام .
وربما ورد أول ذكر لمدينة القدس كتابة في الوثائق التي عثر عليها في "عبلاء-تل مرديخ-في شمال سورية، وهي وثائق مكتوبة على ألواح من الآجر بالخطالمسماري وبلغة سامية غربية، وترجع إلى أواسط الألف الثالث ق.م، وترد في الوثائقأسماء عدة مدن منها - سالم- التي يرجح البعض أنها تشير إلى القدس .
لكن أولاسم ثابت لمدينة القدس وهو "اوروسالم" أو "اوروشالم" إنما ورد فيما يسمى بنصوصاللعنة، وهي تتضمن أسماء البلدان والمدن والحكام الذين كانوا فيما زعم من أعداءمصر، وكانت العادة هي كتابة أسماء الأعداء على الأواني الفخارية ثم تحطيمها في أحدطقوس السحر التأثيري، أي الذي يرمي إلى التسبب في سقوط الأتباع العصاة، وثبت أنتاريخ تلك الأواني يرجع إلى فترة حكم الفرعون "سيزوسترس الثالث 1878-1842 ق.م" وكانت كلها أسماء تسع عشرة مدينة كنعانية من بينها اوروسالم .
وهناكمنيذهب في أصل أوروسالم أو اوروشالم إلى أن الاسم مكون من مقطعين "سالم أو شالم" وهوإسم إله، وأورو: وهي كلمة تعني أسس أو أنشأ، فيكون معنى الاسم "اوروسالم" أسسهاسالم، ويعتبر الاسم اسماً عمورياً، بدليل أن أول اسمين لأميرين تاريخيين من القدسهما: "باقر عمو" و"سزعمو" وهما اسماه عموريان، والعموريون هم سكان كنعانالأصليون، ولغة العموريين تدعى غالباً الكنعانية، كما أن اسم الكنعانيين يشملالعموريين أحياناً .
ويتضح مما تقدم أن التسمية أورشليم التييحاول الصهيونيون اليوم عدها من الأسماء العبرية هي في الحقيقة كلمة كنعانية عربيةأصيلة، وكيف تكون كلمة أورشليم عبرية واللغة العبرية لغة حديثة جداً ولدت في القرنالرابع ق.م وتبلورت في القرن الخامس الميلادي وبعده؟!
وبعد نصوص اللعنةبحوالي خمسمائة عام اسم اوروسالم مرة ثانية فيما يعرف بألواح تل العمارنة، وهي سترسائل بعث بها "عبدي خيبا" - ملك أوروسالم في القرن الرابع عشر ق.م - إلى فرعون مصر "اختانون" يشكو فيها من الخطر الذي تتعرض له مدينته من جرّاء هجمات ما يعرفبالعبيرو .
كما أن "سليمو أو سالم" ذكرت في سجلات "سنحاريب" ملك أشور فيعداد المدن التي تدفع له الجزية، وقد ظل اسم أورشليم شائعاً منذ ذلك العهد إلىيومنا هذا ومنه جاء الاسم الإفرنجي "جيروزاليم" .
ومن أسماء القدس القديمةأيضاً "يبوس" نسبة إلى اليبوسيين، وهم كما ذكرنا فرقة من الكنعانيين سكنوا القدسوحولها،وذكر بعض الباحثين أن اليبوسيين لم يكونوا سوى أسرة أرستقراطية تعيش فيالقلعة وفي عزلة عن سكان البلدة نفسها، ومن المحتمل أن يكون اليبوسييون هم الذينأصلحوا التحصينات القديمة على الآكمة، وقاموا ببناء الحي الجديد على المنحدر الشرقيبين السور وقمة التل .
وفي هذه الفترة أخذ اسم"يبوس" و"اليبوسيين" يظهر فيالكتابات الهيروغليفية، ويبدو أن اليبوسيين قد تلو العموريين في سكني المدينة خلالالنصف الأول من الألف الثاني ق.م، وأطلق على القدس اسم "يبوس" وهو الاسم الثانيلمدينة القدس بعد أورشاليم، وقد سماها الفراعنة في كتاباتهم الهيروغليفية "يابيثي" و"يابتي" وهو تحريف لاسم يبوس الكنعاني اليبوسي،
وفي رأى انفرد به الأستاذ محمودالعابدي في كتابه - قدسنا - أن اليونانيين سموها - هروسوليما- ولكن مؤرخهم "هيرودوتس" سماها "قديس" كما سمعها من سكانها العرب المعاصرين له .
وفي زمنالرومان حول الإمبراطور "هادريان" مدينة أورشليم بعد أن استولى عليها ودمرها عام 122 م إلى مستعمرة رومانية، ويدل اسمها إلى "إيليا كابيتولينا" وصدر الاسم إيليالقب عائلة هادريان، وكابيتولين جوبيتر هو الإله الروماني الرئيس، وظل اسم "إيليا" سائداً نحو مائتي سنة، إلى أن جاء الإمبراطور "قسطنطين" المتوفي عام 237م، وهو أولمن تنصر من أباطرة الرومان - فألغى اسم إيليا وأعاد للمدينة اسمها الكنعاني، ولكنالظاهر أن اسم إيليا شاع وظل مستعملاً، كما نجد ذلك في العهدة العمرية والشعرالعربي.
وبعد الفتح الإسلامي أطلق على هذه المدينة أسماء: القدس، وبيتالمقدس، والبيت المقدس، ودار السلام، وقرية السلام، ومدينة السلام، وكل هذه الأسماءالتي قصد منها التكريم والتقديس لم يعش منها سوى اسمين: القدس وبيت المقدس، بمعنىالأرض المطهرة أو البيت المطهر، وربما يعود خلودهما لارتباطهما بأسماء الله الحسنى،وخصوصاً أن تقديسها ثابت بكتاب الله (عز وجل) وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقدحافظ العرب المسلمون على هذه القداسة منذ أن افتتحوها منذ أربعة عشر قرناً منالزمان، ولم ينتهكوا لها حرمة قط، على نقيض ما فعل اليهود من انتهاكها في كل العصورالتي عرفوا فيها، وما فعل النصارى أيام حروبهم الصليبية، ولم يكتف ا ليهود بانتهاكحرمتها، بل راحوا يضعون الخطط لسلخها من واقعها العربي البريق إلى حاضر غريب عنهاإلى أنها تأباه، لأنه تعد على التاريخ وتشويه للقداسة، واغتصاب للحق، وتزيف للحقيقة .
ولو قدر للقدس الكلام لسمعنا منها تاريخ سبعين قرناً من الزمان أو تزيدترويه لنا وهي شامخة باقيه تتحدى غزاتها، وتجاهر بعروبتها التي لازمتها منذولادتها، وتجاهر بالبراءة من أية صلة لها باليهود.