فى الذكرى السنوية الأولى لأحداث أم درمان مباراتان وديتان بين منتخبى مصر والجزائر فى مثل هذا التوقيت من العام الماضى أطلَّت الفتنة برأسها بين مصر والجزائر، وانطلقت من "أم درمان" السودانية معركة بين "أم الدنيا" وبلد "المليون شهيد" بسبب مقعد فى كأس العالم لكرة القدم 2010..معركةٌ أُشهِرَت فيها كل الأسلحة بداية من "السكاكين" التى أخفاها المشجعون الجزائريون بين طيَّات ملابسهم وليس نهاية بتشكيك إعلاميين مصريين فى الأصول التى ينحدر منها المواطن الجزائرى العربى.
والآن، وبعد مرور عامٍ بالتمام والكمال على الأحداث ، يبدو المسئولون عن الرياضة وإعلامها فى البلدين مُطَالَبين أكثر من أى وقت مضى بالتكفير عما اقترفته أيديهم ووصلت توابعه إلى السياسة والاقتصاد والثقافة..حرىٌ الآن بالإعلاميين الذين أشعلوها نارا بين البلدين، أن يعيدوا إحياء ما بينهما من روابط وينظروا بعين الضمير إلى ما صنعه التعصب الأعمى الذى أفسد الرياضة وأخرجها من سياقها الأخلاقى كوسيلة للتقارب بين الشعوب إلى سبب غير وجيه للتقاتل بين المشجعين من البلدين.
الآن أصبح واجباً على المسئولين الرياضيين أن يظهروا النوايا الحسنة التى أخفاها الغضب ، كما زعم الكثيرون منهم، بدلا من البحث عن أدلة التورط فى الشغب والاعتداء.. هؤلاء كانوا دوماً يفسرون أفعالهم بالإشارة إلى أن الأمر يتجاوز حدود الرياضة وصولاً إلى باحات السياسة..غير أن عناق الرئيسين مبارك وعبد العزيز بوتفليقة فى قمة نيس الفرنسية نهاية مايو الماضى كشف هشاشة مبررهم ووضع مصداقيتهم فى حرجٍ بالغ لم يعد من سبيلٍ للتخلص منه سوى استغلال الذكرى السنوية الأولى لأحداث أم درمان فى الإثبات العلنى لحسن النوايا بين الطرفين..أضحى كل طرفٍ مُطَالَباً بأخذ زمام المبادرة والتحرك فى اتجاه الطرف الآخر..ومثلما خرجت شرارة الفتنة من أفواههم فإن رفع الالتباس صار مسئوليةً عليهم.
الأمر بين مصر والجزائر أصبح يشبه خلافاً بين شقيقين أجَّجه كثيرٌ من الغرباء، فاختلطت الحقائق حتى بدت محاولات الاصلاح بين الجانبين وكأنها على استحياء ومن الهشاشة بالقدر الذى يعرضها للإلغاء لمجرد أن أحدهم صرخ بكلمة مستفزة هنا أو هناك..نحن الآن أحوج ما نكون لأن نثبت للجميع أن ما بين البلدين أكبر من مباراة اختلطت فيها النعرات العصبية والحجج الواهية بامتهان الكرامة، فليجرب هؤلاء الذين كانوا أبواقا للصراع، وأولئك الذين قادوا ألوية الفتنة أن يكفِّروا عما فعلوه وليطالبوا بمباراتين وديتين بين المنتخبين واحدة فى مصر والثانية الجزائر.. تصفو فيهما النفوس ويثبت المصريون والجزائريون على حد السواء أن عروبتهم وأواصر أخوتهم أقوى من أن تكسرها ريح عاصف فى ليلة ظلماء.
هاتان المباراتان يجب أن تكونا خالصتين لوجه الله ولإصلاح ما بين الاشقاء وليس فرصة للتغنى بالحب والود بين البلدين بينما يبقى ما فى القلب فى القلب، هاتان المباراتان أيضا ستمنحان المواطن المصرى والجزائرى الثقة التى يطمحان اليها لتنهى زمنا بات فيه العربى يخفى جنسيته عند دخوله بلداً عربياً آخر، ولا مانع أيضا أن يبادر المسئولون المصريون بدعوة الجزائر للمشاركة كضيف شرف فى دورة حوض النيل المقرر تنظيمها مطلع العام المقبل مثلما فعلت دول أمريكا الجنوبية، والتى دعت اليابان، الدولة الآسيوية، للمشاركة فى بطولة "كوبا أمريكا 2011" فى الأرجنتين، مع اختلاف الدوافع بين الحالتين..حقاً ستزول الكرة ويذهب المسئولون وتتغير الأنظمة لكن تبقى الشعوب من أواصر وأحلام مشتركة لا تغتالها الفتن مهما عظمت.
وحتى لا يبدو الإقرار بتحمل الإعلام الرياضى فى البلدين النسبة الأكبر من المسئولية عن الفتنة بمثابة حكمٍ تعميمى ومطلق، يجدر القول إن هناك أصواتاً متعقِّلة فى كل طرف حتى وإن لم تكن الأعلى نبرة..من بين هؤلاء إبراهيم حجازى، الناقد الرياضى والإعلامى المعروف، والذى يعتقد بوجود طرف "خفى" يقف من البداية خلف تصاعد الأزمة، ويرى "حجازى"، فى تصريحات لـ "اليوم السابع"، ضرورة التنبه، فى الذكرى الأولى لأحداث "أم درمان"، إلى هذا الطرف "الخفى"، واصفاً إياه بعدو مشترك لا يريد للعرب خيراً أو وحدة.
"حجازى" يحذر من مرور ذكرى 18 نوفمبر دون أن يستغلها مسئولو الإعلام والرياضة المصريين والجزائريين فى إظهارٍ فعلىّ لحسن نوايا كل طرف تجاه الآخر، ويتابع قائلاً "لو ما عملناش كده هنتدبح".
ومن فريق "المتعقِّلين" يظهر أيضاً خالد توحيد، الناقد الرياضى والصحفى بمؤسسة "الأهرام"، والذى يعتقد بأن أحداث أم درمان تستحق أن يُصنَع لها نصب تذكارى "ليذكرنا بأخطائنا فى معالجة الحدث إعلامياً حين وقوعه" حسب قوله.
"توحيد" يقترح أن تنظم جهات فى مصر والجزائر ندوات لمن يعملون بالإعلام الرياضى لرصد حجم الأخطاء التى ارتكبها إعلاميون من الجانبين قبل وبعد المباراة الفاصلة بين المنتخبين فى التأهل لكأس العالم، وأثر ذلك على تصرفات الجمهورين تجاه بعضهم..وفيما يتعلق بإمكانية أن تساهم مباراتان وديتان فى إذابة الخلافات، يرى "توحيد" بضرورة تأجيل تنفيذ هذا الطرح لفترة زمنية لم يحدِّدها، مبدياً تخوفه من عدم نجاح هاتين المباراتين فى تهدئة الأجواء "لأن الإعلاميين الذين يخلطون بين الرياضى والاجتماعى والثقافى ويفسدون علافاتنا بأشقائنا العرب مازالوا فى أماكنهم" وفق اعتقاده.