لامست الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي بروايتها "ذاكرة الجسد" كل ذواكر الشعب العربي بمختلف انتماءاته، وحاكت واقعنا وأنظمته المتعددة في زمن كتابة الرواية وحتى يومنا هذا.
ومع أن الحكاية الأساسية في هذه الرواية حول خالد الرسام الذي فقد ذراعه في الحرب دفاعاً عن الجزائر، وعن علاقته العاطفية بالفتاة التي أحبها وبصديقه خالد وبقسنطينة وبباريس أيضاً. إلا أن ما خفي كان أعظم، لأنها تتحدث ما وراء السطور عن أحداث اجتياح لبنان وأوضاع الفلسطينيين وبالتحديد عن وضع الجزائر الاقتصادي والسياسي والاجتماعي. حيث تقارن أحلام مستغانمي فيها بين جيلين، جيل الصقور والنسور وجيل الطيور المدجنة، أو بمعنىً آخر جيل الثورة ورجالها الذين دافعوا واستشهدوا وتطايرت أشلاؤهم على أرض الوطن، وبين الجيل الجديد الذي أخذ الأمور جاهزةً واستفاد من الاستقلال الذي سعى الجيل الماضي إليه.
و"ذاكرة الجسد" وإن كانت تحكي عن الجزائر وتفاصيل أولادها، إلا أنها حكت عن كل الوطن العربي في ذلك الوقت، كون معظم أقطاره كانت تضجّ بالثورات التحريرية وبالاستقلالات التي أفرزت لاحقاً نخبةً كبيرة من الضباط الجدد ورجال الدولة الذين عاشوا وارتقوا على أكتاف من ضحّوا بحياتهم، وقد استمرت هذه النخبة بالتكاثر حتى يومنا هذا ونحن لا نزال نرى آثارها ونعيش بظلها. ولعلّ هذا ما دفع المخرج نجدة اسماعيل أنزور إلى تحويل "ذاكرة الجسد" إلى دراما تلفزيونية تقدم اليوم على المحطات العربية في شهر رمضان.
إنه تحدٍ كبير أن يتم إعداد رواية كهذه على شكل مسلسلٍ تلفزيوني، ويكمن التحدي الأكبر في التعامل مع اللغة الجزائرية التي لا يفهمها إلا الجزائريون والتي كانت ستحرم بقية العرب من متابعة "ذاكرة الجسد" تلفزيونياً، الأمر الذي جعل أنزور يقدم هذه الدراما باللغة العربية الفصحى التي كتبت بها الرواية أيضاً. وقد أعطى هذا الحل المسلسل خصوصية إشباعه بالروح العربية على نحوٍ كبير، بالإضافة إلى الشاعرية التي قدمها إلى كل المشاهدين والتي كانت مستغانمي قد بثتها في كلمات وتراكيب روايتها. فاللغة العربية الفصحى لم تجمّد هذه الدراما إنما جعلتها أكثر قرباً منا عبر المفردات البسيطة والسهلة والدافئة في نفس الوقت.
كذلك حوّل المخرج كل تلك الأحداث المكتوبة إلى صورة مرئية تعبر بذات الحميمية والعاطفة عن كل ما كتب، وهذا هو بالذات ما حدث أثناء الإعداد الدراماتورجي، فمن يشاهد حلقات المسلسل يخيل إليه وكأنه يقلب صفحات الرواية صفحةً صفحة، مع الحفاظ على ذات الحوار وذات الشخصيات وذات الأحداث ضمن فضاءٍ درامي معبرٌ عنه بالصوت والصورة. فأشكال الشخصيات وصوتها وتفاصيل وجوهها وأزياؤها وإكسسواراتها شرحت بطريقة مبدعة عن تصوراتها وأهدافها وطباعها مع الانتباه الكبير لأدق التفاصيل.وهو ما وجدناه كثيراً في شخصية "خالد" وملابسه وبيته ومرسمه، و في الفرق الذي صنعته أحلام مستغانمي بين شخصية "حياة" وشخصية "كاترين" والذي رأيناه كامناً في لون الشعر وطوله وفي اللباس وطريقة الكلام والتصرفات. إن هذا الاعتناء بالتفاصيل الصغيرة سهّل علينا الذهاب نحو الأفكار الكبيرة التي تطرحها الرواية والمسلسل، دون الشعور ولو قليلاً بجمود هذه الأفكار أو عدم استساغتها مهما كانت فلسفية وكبيرة.
كذلك وكما تحدثنا عن الرواية، لم يكن هذا المسلسل جزائرياً فقط، لأن تنوع الممثلين وجنسياتهم ساعد في تعزيز الطابع العربي في هذه الدراما، فالممثلون فيه كانوا من تونس وسوريا والجزائر. أي أن اختلاف الجنسيات كان إيجابياً وضمن الرؤيا الدراماتورجية لهذه الرواية.
ونعود ضمن هذه الرؤيا إلى الوراء لنحاول كشف المزيد عن أسباب تقديم هذه الرواية تلفزيونياً، ونخمن بأنه ورغم الحلقات القليلة التي قدمت من مسلسل "ذاكرة الجسد"، لربما يريد "أنزور" أن يؤكد على ما أكدته "أحلام مستغانمي" في الصفحة الأولى لما كتبت عن أسباب وجود هذه الرواية: " نحن لا نشفى من ذاكرتنا ولهذا نحن نكتب، ولهذا نحن نرسم، ولهذا يموت بعضنا أيضاً"...