قال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46]، وقال تعالى: {وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146]
وقال رسول الله: "ما أعطي أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر" [متفق عليه]
ذكرَ الصبرُ في القرآنِ في أكثرِ من تسعينَ موضعا، مرةً يمدحُ اللهُ الصابرين، ومرةً يخبرُ اللهُ بثوابِ الصابرين، ومرةً يذكرُ اللهُنتائجَ الصابرين، يقولُ لرسولِه: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً}.
إذا رأيتَ الباطلَ يتحدى، وإذا رأيت الطغيانَ يتعدى: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
إذا قل مالُكَ وكثرَ فقرُكَ وعوزُك وتجمعتَ همومُك وغمومُك: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
إذا قُتلَ أصحابُك وقل أصحابُك وتفرقَ أنصارُك: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
إذا كثُرَ عليك الأعداء، وتكالبَ عليك البُغضاء وتجمعت عليكَ الجاهليةُ الشنعاء: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
إذا وضعوا في طريقِك العقبات، وصنفوا لك المشكلات، وتهددوكَ بالسيئاتِ وأقبحَ الفعلات: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
إذا مات أبناؤكَ وبناتُك وتفرق أقرباءُك وأحباؤكَ: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
فكانَ مثالا للصبرِ، سكنَ في مكةَ فعاداهُ الأقرباءُ والأحباء، ونبذَه الأعمامُ والعمومةَ، وقاتلَه القريبُ قبل البعيد فكانَ من أصبرِ الناس، أفتقرَ وأشتكى، ووضع الحجرَ على بطنِه من الجوع وظمأَ فكان من أصبرِ الناس.
مات أبنَه بين يديه وعمرُه سنتان، فكان ينظرُ إلى أبنِه الحبيبِ القريبِ من القلبِ، ودموعُ المصطفى صلى الله عليه وسلام الحارةُ تتساقطُ كالجُمانِ أو كالدرِ على خدِ أبنِه وهو من أصبرُ الناسِ يقول: تدمع العين، ويحزنُ القلب، ولا نقولُ إلا ما يرضي ربَنا، وإنا بفراقِك يا إبراهيمُ لمحزونون.
ماتت خديجةُ زوجتُه وامرأتُه الرشيدة، العاقلةُ الحازمةُ المرباةُ في بيتِ النبوة، التي كانت تؤيدُه وتنصُره، ماتت وقت الأزمات، ماتت في العصرِ المكي يوم تألبت عليه الجاهليةُ، وقد كانت رضي اللهُ عنها ساعدَه الأيمن.
يشتكي إليها من كثرةِ الأعداء، ومن الخوفِ على نفسِه فتقول: كلا واللهِ لا يخزيكَ اللهُ أبدا، إنك لتصلُ الرحم، وتحملُ الكلَ، وتعينُ الملهوفَ، وتطعمُ الضيفَ، كلا واللهِ لا يخزيكَ اللهُ أبدا. فتموتُ في عام الحزنِ فيكونُ من أصبرِ الناسِ لأن اللهَ يقولُ له: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
تجمع عليه كفارُ مكةَ، أقاربُه وأعمامُه، نصبوا له كمينا ليقتلوه ويغتالوه، فدخلَ دارَه، وأتى خمسونَ من شبابِ قريش، كلُ شابٍ معَه سيفُ يقطرُ دما وحقدا وحسدا وموتا، فلما طوقوا دارَه كان من أصبرِ الناس، خرج من الدارِ وهم في نعاسٍ وسباتٍ فحثا على رؤوسِهم الترابَ لأن اللهَ يقولُ له: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
ولما حثا الترابَ على رؤوسِهم كانوا نياما قد تساقطت سيوفُهم من أياديهم، والرسوليتلو عليهم: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ}.
فلما دخل الغار مع أبي بكر، قالُ أبو بكر: يا رسولَ الله واللهِ لو نظرَ أحدُهم إلى موطني قدمِه لرآنا.
فيتبسمُ، يتبسمُ الزعيمُ العالميُ، والقائدُ الرباني، الواثقُ بنصرِ اللهِ ويقول: يا أبا بكر، ما ظنُك باثنين اللهُ ثالثُهما؟ ويقول: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا.
وهي دستورُ للحياة، إذا جعت وظمئت فقل: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا.
إذا مات أبناؤكَ وبناتُكَ فقل: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا.
وإذا أرصدت في طريقِك الكوارثَ والمشكلات ِفقال: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا.
فكانمن أصبرِ الناس، ويخرجُ من الغار، والكفارُ لا يدرونَ أنه كانَ في الغار، فينسلُ إلى المدينةِ وليتَهم تركوه، بل يعلنونَ عن جائزةٍ عالميةٍ لمن وجدَه، جائزةَ العارِ والدمارِ وقلةِ الحياءِ والمروءة، مئةُ ناقةٍ حمراء لمن جاء به حيا أو ميتا، فيلاحقُوه سراقةُ أبن مالكٍ بالرمحِ والسيف، فيراهُوهو يمشي على الصحراءِ جائعا ظمئنا قد فارقَ زوجتَه فارق بناتِه، فارق بيتَه، فارق جيرانَه وأعمامَه وعمومتَه، ليس له حرسُ ولا جنود، لا رعايةُ ولا موكب، وسراقةُ يلحقوه بالسيف.
فيقولُ أبو بكرٍ:يا رسولَ الله والله لقد اقتربَ منا.
فيتبسمُمرةً ثانيةً لأنَه يعلم عليه الصلاةُ والسلامُ أن رسالتَه سوف تبقى ويموتُ الكفار، وسوف تبقى دعوتُه حيةً ويموتُ المجرمون، وسوف تنتصرُ مبادئُه وتنهزمُ الجاهليةُ. فيقول: يا أبا بكرٍ ما ظنكَ باثنين اللهُ ثالثَهما.
ويقتربُ سراقةُ ويدعُ عليه المصطفىفتسيخُ أقدامُ فرسِه ويسقط، فيقومُ ويركب ويقترب فيدعُ عليه المصطفىفيسقط، ثم يقولُ:
يا رسولَ الله أعطني الأمان، الآن هو يطلبُ الأمان وأن يحقنَ المصطفى دمَه، وهو بسيفٍ والمصطفى بلا سيف، فرَ من الموتِ وفي الموتِ وقع. فيعطيهِ المصطفىأمانَه.
يصلُإلى المدينة، ويشاركُ في معركةِ بدر، فيجوعُ حتى يجعلَ الحجرَ على بطنِه:
يا أهل الموائدَ الشهية، يا أهل التخمِ والمرطبات، والمشهياتِ والملابس، رسولُ الإنسانيةَ، وأستاذُ البشرية يجوع حتى ما يجدُ دقل التمرِ وحشف التمر: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
تموتُ بناتُه الثلاث هذه تلو الأخرى، تمتُ الأولى فيغسلُها ويكفنُها ويدفنُها ويعودُ من المقبرَةِ وهو يتبسم: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
وبعد أيامٍ تموتُ الثانية فيغسلُها ويكفنُها ويدفنُها ويعودُ من المقبرَةِ وهو يتبسم: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
تموتُ الثالثةَ فيغسلُها ويكفنُها ويدفنُها ويعودُ من المقبرَةِ وهو يتبسم: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
يموتُ أبنُه إبراهيم، فيغسلُه ويكفنُه ويدفنُه ويعودُ من المقبرةِ وهو يتبسم: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
عجبا من قلبِك الفذ الكبير. لأن اللهَ يقول لَه: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
يشاركُ في معركةِ أحد، فيهزَمُ أصحابُه، ويقتلُ من قرابتِه ومن سادةِ أصحابِه، ومن خيارِ مقربيه سبعونَ رجلا أولُهم حمزة رضي اللهُ عنه، عمُه سيفُه الذي بيمينِه، أسدُ اللهِ في أرضِه، سيدُ الشهداءِ في الجنة، ثم يقفُعلى القتلى، وينظرُ إلى حمزةَ وهو مقتولُ مقطعُ، وينظرُ إلى سعدَ أبنُ الربيعِ وهو ممزق، وأنسُ ابنُ النظر وغيرهم من أولئك النفر فتدمعُ عيناه، وتسيلُ دموعُه الحارة على لحيتِه الشريفة، ولكن يتبسم لأن الله قال له: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
ويعودُفيرسلُ قادتَه إلى مؤتةَ في أرض الأردنَ ليقاتلواُ الروم، فيقتلُ الثلاثةُ القوادُ في ساعةٍ واحدة، زيدُ أبنُ حارثة، وجعفرُ الطيار، وعبدُ الله أبن رواحه، ويراهم وينظرُ إليهم من مسافةِ مئاتِ الأميال، فيتبسمَ وهو يبكي لأن اللهَ قال له: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
يتجمعُ عليه المنافقونَ، والكفارَ، والمشركون، واليهودَ، والنصارى، فيحيطون بالمدينة، فيحفرُالخندق، ينزلُ على الخندقِ ويرفعُ الثوب، وعلى بطنِه حجرانِ من الجوع، فيضربُ الصخرةَ بالمعولِ فيبرقُ شذا النارِ في الهواء فيقولُ:
هذه كنوزُ كسرى وقيصر، واللهِ لقد رأيتُ قصورَهما، وإن اللهَ سوف يفتحُها علي.
فيضحكُ المنافقونَ ويقولون: ما يجدُ أحدُنا حفنةً من التمر، ويبشرُنا بقصور كسرى وقيصر.
فيتبسم لأن اللهَ يقولُ له: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
وبعد خمسٍ وعشرين سنةً تذهبُ جيوشُه وكتائبُه من المدينةِ فتفتح أرض كسرى وقيصر، وما وراء نهر سيحونَ وجيحون، وطاشكند وكابل وسمرقن والسند والهند وأسبانيا، ويقفُ جيشُه على نهر اللوار في شمالِ فرنسا.
لماذا لأن اللهَ يقولُ له: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
يأتي الأعرابيُ من الصحراء فيجرجرُه ببردتِه، ويسحبَه أمامَ الناس، وهو يتبسمُ: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
أي صبرٍ هذا!
إنها واللهِ دروسُ لو وعتَها الأمم لكانت شعوبا من الخيرِ والعدلِ والسلام، لكن أين من يقرأُ سيرتَه، أين من يتعلم معاليه.
يمرُ عليه في بيتِه ثلاثةُ أيامٍ وأربعة فلا يجدُ ما يُشبعُ بطنَه، لا يجدُ التمرَ، لا يحدُ اللبن، لا يجد خبزَ الشعير، وهو راضٍ برزقِ اللهِ وبنعيم الله: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
ينامُ على الحصيرِ، ويؤثرُ الحصيرُ في جنبِه، وينامُ على الترابِ في شدةِ البرد، ولا يجدُ غطاءً: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
بيتَه من طين، إذا مدَ يدَه بلغتِ السقف، وإذا اضطجعَ فرأسُه في جدارٍ وقدميه في جدار لأنَها دنيا حقيرة: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً