في ذكرى رحيله الثانية
"محمود درويش " العصي على النسيان
روي محمود درويش: حكاية قصيدة "أحن الى خبز أمي" ذات مرة قائلآ:
"... عندما كنت في السجن زارتني أمي وهي تحمل الفواكه والقهوة . ولا أنسى حزنها عندما صادر السجان إبريق القهوة وسكبه على الأرض , ولا أنسى دموعها . لذلك كتبت لها اعترافا شخصيا في زنزانتي , على علبة سجائر , أقول فيه : أحنُ إلى خبز أمي .. وقهوة أمي .. ولمسة أمي .. وتكبر فيَ الطفولة .. يوما على صدر أمي .. وأعشق عمري لأني .. إذا مت .. أخجل من دمع أمي . وكنت أظن أن هذا اعتذار شخصي من طفل إلى أمه , ولم أعرف أن هذا الكلام سيتحول إلى أغنية يغنيها ملايين الأطفال العرب...".
لم يكن يعرف درويش العظيم أننا نحن الكبار (سنآ) نصبح أطفالآ عندما نسمع هذه الأيقونة الخالدة شعرآ وغناءآ وموسيقى للرائع مارسيل خليفة...ولا أظن أن هذا العمل الفني الأسطوري سيتكرر يومآ ما , فهذه ومضات العبقرية والإبداع والجمال السامي تبرق مرة ولا تعود مرة أخرى , وإذا عادت فلن تكون بمثل هذه السلاسة والعبقرية والبساطة وبنفس هذا التوهج, لقد أشهر درويش قصائد بسيطة مكونة من عبارات ننثرها كل يوم في حياتنا, ولكن الشعراء العظماء وحدهم هم القادرون على إلتقاطها وصياغتها بعقد عبقري من لألي البيان الساحر وقلادة من الشعر المنظوم المبهر والمدهش والمفاجئ..
فهكذا كانت قصائده السهلة الممتنعة هي الأكثر جماهيرية والأذيع صيتآ والأكثر حفظآ مما كتب درويش - رغم دواوينه الكثيرة وملاحمه الشعرية العظيمة والتي تضمنت فكرآ حداثيآ وجدلآ وجوديآ وإنسانيآ - فبالرغم من ذلك فأشهر ما كتب كان أبسط ما قرضه الشاعر العظيم وأقربه لقلوب محبيه ومريديه في أنحاء الوطن العربي الكبير من "سجل أنا عربي" إلى " أحن إلى خبز أمي" إلى "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"...
أجل يا درويش , فالتاريخ سجل ويسجل وسيسجل أنك عربي رغم الإحتلال والتهويد وسلب الهوية والأرض,
وكلنا سنذكرك عندما نرى أو نشتاق لإمهاتنا وأوطاننا ونحن لخبز أمهاتنا وقهوتهن وطعامهن وحنانهن ولمستهن وثوبهن الفلسطيني المطرز بالحرير المذهب..
وتلك الأرض التي عشقتها حتى الرمق الأخير, والتي ولدت وترعرعت ومشيت عليها وضم ثراها جثمانك الطاهر, عليها ما يستحق الحباة ومن أجلها تهون الحياة رخيصة أيضآ..
وفي ذكرى رحيلك الثانية التي ستصادف غدآ , أؤكد ما قلته لصحبي يوم رحيله , إن محمود درويش حتى وإن حاولت أن تنساه, فهو عصي على النسيان ; إنه خالد في القلوب والعقول والضمائر والشعر والنثر والنقد والعطر والزهر وكل شئ جميل , في ذكريات عنفوان شبابنا وحماسنا المتأجج وعشقنا الجارف لفلسطين, وفي أهات المعذبين وأنات المظلومين وفي عيون التائقين إلى الحرية , وفي نظرات أطفال فلسطين والعراق وأطفال الوطن العربي المنكوب والمسحوق والمبتلى بالهزائم والنكسات والنكبات والخيانات والديكتاتوريات...
إنه ساكن في كل نبضة في قلوبنا وكل دمعة فرح أو حزن تنهمل من عيوننا وكل دفقة دم تجري في عروقنا وفي أحلامنا الوردية وأرشيف ذكرياتنا وفي تفاصيل قضيتنا وتاريخها السرمدي والأبدي,
هو سيبقى محمود درويش وكفى بذلك تعريفآ هو ملك لنا جميعآ وجزء منا جميعآ ورمزنا الأجمل ووجهنا الأنصع طهارة , ومرآة حضارة أمة أنجبته وأنجبت البروفيسور إدوارد سعيد والقائمة طويلة لهذا الشعب الإسطوري "شعب الجبارين" , ولهذه الأرض التي ما عليها يستحق الحياة والحب والوجد والهيام والإنتماء والخلود والحرية....
فلن أقول وداعآ يا درويش!!! وأنت الحاضروالحي روحآ ونتاجآ وإرثآ فكريآ وإنسانيآ , رغم الغياب و الموت الجسدي , وانت الضمير والوجدان وخفقان القلب ووجيبه المتسارع كلما ذكرت معشوقتنا وحبيبتنا الأزلية فلسطين..
أنت لست ملك نفسك ولا حتى ملك عائلتك وذويك فقط, أمثالك هم ملك للأمم الذين تفانوا في خدمتها وقدموا لها كل ذرة من كيانهم ووهبوا لها أعمارهم, كذلك أي تعريف يصاحب أسمك لن يفيك حقك فيكفي أن ندعوك دون أي لقب أو صفة أو تفخيم أو مدح أو إطراء , بمحمود درويش بدون إضافة أي وصف أخر, فليس هناك أروع ولا أجمل من وقع الإسم على مسمعي وما يحضر ذهني حين سماع ذاك الإسم...وإذا درويش قال في جداريته ومعلقته الشعرية العصرية "أنا لست لي " فنحن نجيبه ونجيب رموز أمتنا العظيمة نعم أنتم لستم لكم ولا تخصوا ذواتكم وحدها, أنتم ملك الأمة والتاريخ والإنسانية حفرتم أسمائكم في لوحة المجد والخلود فيها بأحرف من نور وضياء وبهاء لن تمحوه السنين ولن تذروه الرياح
وأنت لست لك, أنت لست لك...أنت لست لك..
فسلام عليك يوم ولدت , ويوم رحلت طائرآ محلقآ عاليآ في سماء الخلود والحب والعشق الفلسطيني, ويوم يتحرر وطنك وينقل جثمانك إلى" البروة " مسقط رأسك, وسلام عليك كذلك يوم يبعثون...
د. سمير عبدالكريم أيوب
كاتب وناقد وأكاديمي
نوفارودا - بولندا
تحياتي