كشفت
الاحتفالية التي أقامتها وزارة الثقافة المصرية بمناسبة مرور مائة عام على
إنشاء المتحف المصري عن أهمية خاصة لهذا المتحف عالميا من ناحية، وأهمية
تاريخية لنظرة المصريين إلى تراثهم وآثارهم من ناحية أخرى، وكذلك رؤية
جديدة لهذا المتحف الذي يضم ثروة هائلة لا مثيل لها في العالم يدخل بها
عصر زيارة المتاحف عن بعد!!
استمرت الاحتفالية 4 أيام
من 9-12 ديسمبر الحالي 2002، وحضرتها السيدة سوزان مبارك قرينة رئيس
الجمهورية المصري وعدد كبير من علماء الآثار في العالم ورؤساء أهم المتاحف
العالمية مثل (اللوفر والمتروبولتيان ومتحف بوسطن والمتحف البريطاني)، كما
تخللها مؤتمر عن فن إدارة المتاحف.
كانت المفاجأة التي انتظرها
الجميع هي تلك الآثار التي عرضت لأول مرة للجمهور، حيث ضمت 250 قطعة من
الآثار الفرعونية التي كانت موجودة بمخازن المتحف المصري ولا أحد يعلم
عنها شيئا وبعضها بمخازن حفائر جامعة القاهرة، وأخرى استردت مؤخرا لمصر،
مثل: تمثال الكاهن (مونتو) ومجموعة من الأقنعة الفرعونية، ومجموعة من
التماثيل التي هربت من مصر إلى إيطاليا، وأربعين قطعة من آثار الملك توت
عنخ آمون (1340ق.م ) لم تعرض من قبل، وتمثال فريد للكاتب المصري يختلف عن
الموجودين بالمتحف المصري ومتحف اللوفر بباريس.
آثار مخزنة.. وخروج شرعي
الآثار المكدسة مشكلة ناقشتها الاحتفالية
وقد دارت مناقشات الاحتفالية حول محورين رئيسيين:
الأول: مصير الآثار
المخزنة وامتلاء المتحف المصري بمائة وستين ألف قطعة أثرية، بالإضافة إلى
الآلاف الأخرى المخزنة في طابق تحت أرض المتحف غير معروضة لعدم وجود مكان
لها.
والثاني: إذا كان
يمكن استرداد قطع أثرية مصرية موجودة في دول العالم لأنها خرجت بطريق غير
شرعي، فهل هناك طرق شرعية لخروج الآثار من موطنها لا يمكننا استردادها بعد
ذلك؟!
وعن المحور الأول فقد دفع
امتلاء المتاحف بالآثار المخزنة وامتلاء المتاحف وزارة الثقافة المصرية
إلى التفكير في إنشاء متحف آخر لهذه الآثار بمنطقة الأهرامات، بالإضافة
إلى البدء في إنشاء عدة متاحف في المناطق السياحية مثل الغردقة وشرم الشيخ
والعريش، وهي وجهة نظر تجعل الآثار في خدمة السياحة، وفي نفس الوقت تدفع
الكثير من القطع الأثرية المخزنة لترى النور.
وقد لاقت هذه الفكرة الكثير
من التأييد والمعارضة في الوقت نفسه، فيرى الدكتور مختار الكسباني - أستاذ
الآثار بجامعة القاهرة وهو من المؤيدين - أن نشر المتاحف في المحافظات
المختلفة لا يخدم السائحين فقط، وإنما يتيح الفرصة أيضا للمواطنين
المقيمين في هذه المحافظات للاطلاع على هذه الآثار، وهذه المتاحف الصغيرة
لا تقلل من أهمية المتاحف الرئيسية الكبرى والدليل هو متحف أسوان ومتحف
النوبة الموجودان في جنوب مصر، وقد نالا شهرة عالية منذ سنوات وأصبحا
وسيلة جذب سياحي لهاتين المدينتين.
أما الدكتورة فايزة هيكل
-أستاذ الآثار الفرعونية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة- فترى أن التوسع في
إنشاء المتاحف مطلوب لكي يتمكن الزائر من رؤية الأثر وعرضه، لكن يبقى
السؤال المهم كيف ستنقل هذه الآثار وأيها سينقل وأيها سيبقى بالمتحف الأم؟
خاصة أن المتاحف الموجودة بالقاهرة متاحف (نوعية) بعضها مخصص للعصر
الفرعوني، وبعضها للإسلامي وبعضها للقبطي وهكذا، بينما يتم التوسع في
إنشاء المتاحف عالميا ولكن في نفس المكان مثلما حدث في اللوفر الذي يتم
التوسع في إنشاء مبان ملحقة به؛ حتى إنهم يطلقون عليه الآن متاحف اللوفر،
ويبقى الأهم من بناء المتاحف هو القوى البشرية التي تدير هذه المتاحف خاصة
مع دخول المتاحف عصر الزيارة عبر الإنترنت والزيارة الإلكترونية.
ويتفق مع هذا الرأي د. علي
رضوان -عميد كلية الآثار جامعة القاهرة- موضحا أن عملية النقل يجب أن تكون
مدروسة حتى لا ينتزع من المتحف الرئيسي خير ما فيه ويقل إقبال الناس عليه،
بل لا بد أن يبقى للمتحف الرئيسي ميزة وخصوصية غير موجودة في المتاحف
الأخرى.
أول متحف في العالم
واجهة المتحف تظهر التأثر بالمعمار الفرنسي
أما
المحور الآخر وهو الخروج غير الشرعي للآثار والخروج الشرعي فهو يشدنا
بداية إلى تاريخ المتحف المصري نفسه وأين كانت الآثار المصرية قبل مائة
عام وكيف كانت تخرج؟!
يتميز المتحف المصري الذي
أنشئ قبل مائة عام فقط (1902م) بأنه أكبر متحف في العالم يضم حضارة شعب
واحد؛ فمتحف اللوفر أو المتحف البريطاني بلندن أكبر منه بثلاثة أضعاف
تقريبا، لكن لا يضم أي منهما حضارة شعب واحد، فهما يضمان الحضارات
الآشورية والإغريقية والمصرية والسورية وغيرها.
وهناك أهمية ثانية لهذا
المتحف، فهو أول متحف في العالم صُمم ونفذ منذ البداية ليؤدي وظيفة المتحف
عكس ما كان شائعا في أوربا من تحويل قصور وبيوت الأمراء والنبلاء إلى
متاحف.
هذا إلى جانب ما يضمه
المتحف من مجموعات أثرية لا مثيل لها في العالم، وطرازه المعماري الذي فاز
من بين 73 تصميما، وضعه المهندس الفرنسي "مارسيل دورنون" شيد على طراز
العمارة الكلاسيكية اليونانية الرومانية، وليس على هيئة المعابد المصرية
أو متأثرا بالحضارة المصرية القديمة، فهو لا يحوي أي تأثيرات للفن المصري
القديم إلا في تصميم حجراته أو قاعاته الداخلية؛ فمدخل القاعات يحاكي ضريح
المعابد المصرية، والحجرات تحاكي معبد أدفو.
أما واجهة المتحف فهي على
الطراز الفرنسي بعقود دائرية، تزينها لوحات رخامية لأهم وأشهر علماء
الآثار في العالم، وعلى جانبي باب الدخول الخشبي تمثالان كبيران من الحصى
لسيدتين على الطراز الروماني، ولكن برءوس فرعونية.
وقد يكشف هذا رؤية
المسئولين المصريين قبل مائة عام وانجذابهم للعمارة الفرنسية، وبالتالي
جاء المتحف فرنسيا في الواجهة فرعونيا من الداخل حتى يتسق مع المعروضات.
كما يضم المتحف مكتبة كبيرة تجمع مؤلفات الآثار والتاريخ والحضارة
والديانات باللغات المختلفة.
لكن رغم أهمية هذا المتحف
فإنه لم يكن هو المتحف الأول في مصر، فقد أقام محمد علي أول متحف في مصر
عام 1835م بمنطقة الأزبكية (وسط القاهرة)، وأشرف عليه الشيخ رفاعة
الطهطاوي، وقبل هذا التاريخ كانت القنصليات الأجنبية في مصر تقوم بإرسال
الآثار المصرية إلى أوربا وازدهرت تجارة الآثار المصرية خلال القرن التاسع
عشر، لكن رفاعة الطهطاوي نجح في إصدار قرار بمنع التهريب والاتجار في
الآثار المصرية إلى الخارج، ولكن بوفاة محمد علي باشا (1849م) عادت الأمور
مرة أخرى إلى عهدها الأول، حتى إن دوق فرنسا "مكسميليان" عند زيارته
للقاهرة شاهد مجموعة الآثار التي كانت جمعت وأعجب بها، فما كان من الخديوي
عباس الأول (والي مصر وقتها) إلا أن أهداها إليه دون أن يبقي منها شيئا،
وانتهى أمر أول متحف في مصر.
صورة للمتحف في بداية إنشائه عام 1902